براءة العفوية وظلم التطفل ..

 كلمةٌ طرأت في بالي إثر موقف حدث أمامي منذ ليالي ، فأصبحت حروفها لا تفارق مخيلتي وكأنها ترتب أفكاري ، بل وكأنها ترسم متاهاتي ومازالت حتى بدأت بكتابة مقالتي هذه .. 

كنت جالسًا على مقعد الحديقة وفي يدي كتابٌ وبجانبي قارورة صغيرة نصفها ممتلئ أرتشف منها كلما جف ريقي ، وبين أصابعي قلمٌ أرتب به أفكاري شارحًا هذه الكلمة ومعلقًا على الأخرى وإذا بي أسمع صوت أحدهم قائلا : " ماذا تقرأ " .. توقفت لبرهة لأنظر للسائل محللًا لحاله ، متفاجئًا من سؤاله ، فلم يبدأ بالتحية ، ولم يكن مبتسمًا ولم يبدأ حديثه عن شيءٍ عام يدور حولنا ، بل ترك كل شيء ووجد نفسه مهتمًا بما بين يدي ، فلم أجبه لبرهة فقد كنت مركزًا في كتابي ومتقوقعٌ مع ذاتي ، تدور في خاطري تساؤلات حول ما أقرأ ، فإذا بي أجد نفسي أخرج من قوقعتي لأتساءل عن أمر هذا الرجل محققًا في طريقته وأسلوبه ، ونظراته الحادة ، والتي بها طمعٌ بما ليس للمرء حقٌ به .. 

أجبته على مضض مردفًا إجابتي بتحية وكأنني أخبره بأن التحية أمرٌ أساسي قبل أي شيءٍ آخر ، ( لعلي لم أكن أملك سماحتي المعهودة ولعل ماكنت أقرأ سبب في ذلك ) وهنا صُدمت من صمته وعدم إجابتي والجلوس لبرهة لحظات ثم الذهاب .. 

هنا أغلقت كتابي وفتحت مذكرتي لأكتب عنوان هذه المقالة محاولًا الحديث عن مكون أساسي من المجتمع قد يكون جزءًا بسيطًا ولكننا نواجهه جميعًا في حياتنا وقد يصبح أحيانا مزعجًا ، بل كاسرًا لسلامٍ داخلي قل أن يحصل عليه الإنسان في ضوء متغيرات هذا الزمان .. 

إن العقل البشري بكل تفاصيله وتعقيداته غالبًا ما يظل حبيسًا لفقر المعرفة والتي يحصل عليها عند تحكيمه أو قبل ذلك عبر احتواءه لكل ما يُلقى بين ثغراته في طفولة المرء وصباه بل قد يصبح في حالات عبدًا لهذه الأوامر ظنًا منه أن كل شيء معاكس لها ليس إلا أخطاءًا يجب الحذر منها والابتعاد عنها وربما تكون هذه التكهنات البدائية سببًا رئيسيًا في البعد عن إعماله والاكتفاء بظنون البيئة وأوامر العادة وهذا ما يجعلنا نعيد النظر في كون العقل البشري لديه القدرة على التفرقة بين الصحيح والخاطئ في كل حالاته وكونه مختلفًا عن غيره من المخلوقات والتي كُرِّم الإنسان عنها بوجوده .. 


عندما يقدم المرء لذة " الفضول " على إعمال الخُلُقْ ، فهنا تقف الأسس العقلية عند منعطفٍ خطير يُظهر وجود مشكلة عميقة لدى الإنسان تكمن في عدم إتزانه الإرادي وصعوبة تحكمه بذاته بل فقدانه السيطرة على هذا الصندوق الذي قد يحتوي على أسمى الأمور والتي بدورها تضع حدًا عند كل ما هو خاطئ وتمنعه من الدخول في كوكبة تمكنه وإرادته .. 


لن نتحدث هنا عن ديدن الفضيلة وأسسها الصامتة ، ولن نتحدث عن تفاصيل الأخلاق وتبدلها ولكن حديثنا لن يباعدهم ظنًا منا أن العقل لن يكون له الأولوية في حياة الإنسان إلا عند وجود مبادئ وضعها على ضوء ماهو خيرٌ له ولغيره(١) ، وشاركه القلب في إقرارها بعد وضعها في بوتقة العاطفة والتي لن تزيدها إلا جمالًا ، فما العقل بسامٍ إذا كانت أوامره فظة عجفاء تضر بالذات والمجتمع .. 

قد يظن القارئ أننا مجحفون عندما أوصلنا الأمر لهذه النقطة أو أننا نعادي القاعدة الكانطية(٢) بشكل غير مباشر وهذا لعمري هو العداء لها فليس من المنطق أن يتحرر المرء ولا أن يتزمت ، حتى وإن كنا في ذلك ولكننا بعيدون كل البعد عن سلب الإرادة ومجاوزة ذلك بوضع أحكام إقصائية وقطعية لا تؤدي إلا إلى كل مريب ..  

ولعلنا نوضح المعنى اللغوي للعفوية لكي لا يحال عقل القارئ إلى ما لا يقصد ، فالعفوية هي " السلوك المنفذ بلا جهد أو سبق إصرار " ، أي أن مُنَفِذه يُباغَت بسلوكه ، فلم يفكر أو يخطط أو يقرر ، إذن هنا نقول أن حديثنا ليس عن العفوية الإنسانية البريئة بل عن مخالفها ومدعي نسبها في هذا الزمان وهو الفضول ، ولعلنا نناديه بمسماه الأوضح " التطفل " ، وهذه الصفة العمياء التي أصبحنا نراها كثيرًا ليست إلا داءًا عضالًا ينهش أخلاق المرء حتى يفقد أقل ما يمكن الاحتفاظ به وهو ماء الوجه .. 


والغريب في الأمر أننا عندما نعيد النظر في تصرفات جداتنا ، نجد أن هذه الصفة تكاد أن تكون معابة لدى الكثير ، ومع ذلك فنحن لا ننكر وجودها منذ القدم ولو لم تكن موجودة لما وجدنا لها ذكرًا على لسان رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم : " من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه " ..  


——————————

 (١) نخرج هنا من نطاق الغيرية والأنانية .

(٢) كل شخص يستطيع تحديد علاقته بالعالم على هواه .