خلف كل باسط قصة

 منذ سنوات حادثني صديق لي عن تجربة ود أن يقوم بها ، وأراد أكون مشاركًا له ورفيقًا فوافقت بطبعي ولثقتي بجمال كل جديد ، وأن المرء ليس إلا حصيل تجارب وخبرات حياتية .. 

وكانت فكرته أن نأخذ بضاعة من مدينة ونذهب بها لمدينة أخرى بلا تخطيط أو بحث مسبق ، لنرى المكسب التجاري مقابل الجهد البدني ، ونرى هل وراء ذلك مايدعو إليه ، أم أن الأمر لا يخرج عن كونه تحصيل حاصل كما يقال ، ولنعلم من ذلك جانبًا مهمًا وهو " هل التجارة البسيطة يجب أن تكون وفق أسس ودراسات كما يقول الأكاديميون أم أنها ليست إلا حظوظًا أو أقدارًا " كما يقول الواقع " .. 


توجهنا إلى سوق مدينتنا بعد الفجر ، واخترنا بضاعة كانت رائجة في ذلك الموسم " فاكهة " ، ساومنا عليها في الحراج " المزاد " القائم وأخذنا حصيلتنا مبتسمين ومتوجهين إلى مدينة تبعد عنا " 500كم " فما أن وصلنا إلا وتوجهنا إلى السوق العام وكان وقت وصولنا خاطئًا ، وهذه واحدةً أرهقتنا ، فالسوق يبدأ بعد الفجر وبعد العصر ، ونحن قد وصلنا في الحادية عشرة قبل الظهر ، وكأننا متأخرون عن الأول خمس ساعات ومبكرون عن الآخر مثلها ، كان درجة الحرارة لا تنزل عن 50 درجة مئوية ، فنحن في منتصف الصيف ، أذكر أننا وقفنا تحت مظلة كبيرة في السوق مرهقون ذهنيًا ، فمعنا بضاعة مغطاة بقماش لا يحميها من لاهب الحر ، بل وكلما تأخر الوقت كلما وجدنا أنفسنا في مأزق أكبر " خسارة البضاعة أو عدم بيعها " .. 


مرت الساعة والساعتين ، وأصابنا الجوع .. فتوجهنا لأحد المطاعم لتناول وجبة الغداء لعل الوقت يمر ، خرجنا من ذلك المطعم متخمين فلم نجد حتى ذلك القماش المبلل بالماء والذي كان هو الحافظ بعد الله لتلك الفاكهة ومحاولة منا لتكوين قليل من الرطوبة لتبريدها ، توجهنا مسرعين للسوق لا نريد سوى الوقوف تحت أحد مظلاته ، مضت ساعات وإذا بالشاحنات تتوافد وتتوقف وتنزل بضاعاتها على الأرض لعرضها على من يأتي ، فهذا هو وقت العرض .. 


وجدنا أنفسنا بين شاحنات لديها 100 ضعف مما نملك ، بل والعجيب أنهم كانوا متضايقون من وجودنا البريء بينهم ، وكأننا غزاة مجهولون لسوقهم الذي يملكونه ، وليس لنا حق حتى بالوقوف به .. 

لم يكن وقوفنا مخالفًا لنظام ولم نكن متوقفين في موقف خاصٍ بشاحنات البضائع بل في ساحة السوق ..  

وكلما مرت دقائق ، أتانا أحدهم يتساءل عن سبب وقوفنا هنا ، ونحن أصحاب البضاعة القليلة ، وهذه كانت البداية ، فمن بعد ذلك تحولت لغتهم إلى : " لماذا تقفون في مكان فلان ؟ وبعد قليل ستأتي شاحنته "  .. 

أذكر أنه قد عاد لنا أحدهم بطريقة " الناصح المبتسم " قائلًا : أرأيتم ذلك الجامع ؟ اذهبوا إليه وقفوا عنده ، فهذا سوقٌ كبير عليكم ، وبضاعتكم قليلة ، إني أرى 200 صندوق أنا مخطئ .. ، أجابه رفيقي وكان سريع الغضب : وإن كانت عشرين صندوق !! ألا يحق لي بيعها هنا ؟؟ هل الأرض لكم أم هي أرض السوق ، والسوق للجميع ، تغيرت معالم وجهه التي كانت للبراءة أقرب وأجاب : نصحتكم وأنتم أحرار .. 


مرت دقائق وإذا بشاحنة تقف أمامنا تحجب عنا الطريق ، بل وكأنها تعزلنا عن السوق ، وينزل منها مجموعة لإنزال البضاعة وكأن معهم " فلان " الذي قالوا لنا من قبل أنه سيأتي وهذا مكانه .. 


فسألنا : " ماتفعلون ، لما تقفون مكاني ؟ " .. 


هنا سأتوقف عن الرواية ، هذه القصة المحزنة والمضحكة في نفس الوقت ، لأتكلم عن موضوع مهم قد لا يعلم الكثير عن وجوده ، هو التفاوت الطبقي التجاري .. 


حين ما كان البعض يُقْبِل علينا للشراء ويرى بضاعتنا قليلة وفي سيارة صغيرة ؟ كنا نسمع ونرى كسرًا لسعر السوق ، مع أن بضاعتنا ليست بأقل مستوى من بضائع الشاحنات التي بجانبنا ، وفي الأخير يذهب المشتري لصاحب الشاحنة ويأخذ منه بسعر أعلى ، وكأنه مسحور بكثرة البضاعة ، معتقدًا أن الجودة بالكثرة .. 


وبعد هذه التجربة البسيطة ، والتي قد يظن القارئ البسيط أنها خاسرة ، تكونت لدينا نظرة واسعة لما يدور حولنا من أساليب مجتمعية قد لا نلاحظها كمستهلكين ويلاحظها من هم في وسط هذه الغربة الحياتية .. 


أذكر أني حينما كنت أعمل في العقار " في دولة أخرى " كنت أحاول أن أجعل دائمًا شخصًا أو شخصين يستفيدان من أي صفقة كانت تحدث ، فما يضيرني نقصان مئتين من الألف أو حتى ألفين من عشرة أضعافها ، بل هي عندي أفضل في تسويق يوصلني للعملاء بشكل مباشر " كصاحب عمل " دون وجود ذلك الفرد الذي يبحث عن قوتِ يومه .. 


إن التعاون المجتمعي ليس كلمة تلقى في المجالس أو في الصحف ويقصد بها ما يقصد ، بل هي سلوكيات إن لم تكن لدينا وجدنا أنفسنا ساقطين في قيعان من الصعب النهوض منها ، ففي الماضي لم يكن هنالك ماهو موجود الآن من تسويق إلكتروني وغيره من الأساليب ولكن لديهم شيءٌ أهم من ذلك ، وهو الأمانة والإيثار ومحاولة رفعة المجتمع عبر التعاون على الخير .. 


إن العطاء مرتبة رفيعة لا يرومها سوى من كانت دواخله مليئة بالمسؤولية ، والصبو إلى رفائع الأمور وأكرمها ، تذكرت هنا حديث " إريك فروم " على العقل السوقي بقوله : " إن شخصية السوق ترغب في العطاء لكنها لا ترغب فيه إلا بهدف التلقي ، ضمن حالة تبادل ، فالعطاء دون تلقي بالنسبة إليها هي عملية خداع " ، وذلك بظني هو أدنى معتقد في ساحة الأخلاق .. 


عندنا نجد أحدهم قد افتتح محلًا واحدًا بسيطًا وجب علينا دعمه ، عندما نرى سيارة واحدة تقف على جانب الطريق تبيع شيئًا وجب علينا دعم ذلك المقاتل الذي كان ومازال جزءًا من المجتمع ، له الحق في أن يصل إليه قليل من الإحسان ، وذلك أقل ما يمكن أن يفعله إنسان أراد لنفسه أن تسمو عن دقائق الأمور ، ومع ذلك ستبقى تلك التصرفات فردية لا تدل سوى على سمو الذات التي حملت في طيّاتها الكثير من الكرم النفسي الذي قليل منا من ينظر له في محيط حُصر به الكرم في جوانب الإطعام .. 


مازال هنالك الكثير مما يقال .. 


أصبحت لدي قواعد حياتية كثيرة منذ ذلك الحين لعل أحدها أني لا أقف على صاحب " بسطة " وأجادله بثمن بضاعته بعكس من كان صاحب تجارة كبيرة ، ليس ذلك ظلمًا أم حسدًا بل لأني أعلم أن خلف كل " باسط " قصة تستحق أن تروى .. 



أحمد الهشال 

3/11/2023